يقول: "-تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وإنما المراد إحاطة عظمة وسعةٍ وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة"، الإحاطة صفة حقيقية من جهتين: من جهة عظمة ذاته سبحانه وتعالى بالنسبة إلى خلقه، ومن جهة إحاطة علمه بالنسبة إلى كل المخلوقات.
ونقف هنا قليلاً عند التعليق الذي ذكره المعلق، ولا أظنه الشيخ ناصر، فقد يكون الشيخ زهير الشاويش، أو غيره؛ فأياً كان قائله فنحن نقرؤه ونبين ما فيه من خطأ، يقول المعلق: "في الأصل إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وكلا العبارتين حسن، وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لابد منه أحياناً" ومعنى (ينقمه) أي: ينكره "مع أنه لابد منه"، أي: أن قول المصنف رحمه الله: "إحاطة عظمة وسعة وعلمٍ وقدرة، أو إحاطة عظمته ... إلخ" فكلتا العبارتين تصح، وهو من التأويل الحسن، وإن كان مما لا يؤمن به المصنف، بل ينقمه وينكره، لكن لابد منه أحياناً.
وهذا مثل قول القائل: نحن أهل السنة والجماعة لا نؤول إلا عند الضرورة، حيث لا مفر منه.
فنقول: من أين جاءت هذه الضرورة؟ وهل ذلك لابد منه عقلاً أم نقلاً؟ فقولك: (لابد منه) ليس دليلاً ولا قاعدة، وإنما هي حالة ذاتية، فقد يقول قائل: لابد من تأويل اليد، ويقول آخر: نثبت اليد لكن لابد من تأويل النزول، ويأتي آخر يقول: نثبت النزول، لكن لابد من تأويل الإحاطة. فإذاً: ما لابد من تأويله أمر لا ينضبط، وليس له قاعدة محددة، ويعود السؤال.
فإن قال: لابد من تأويله شرعاً وديناً.
قلنا: في أي كتاب وفي أية سنة أمرنا أن نؤول؟
وإن قال: لابد من تأويله عقلاً.
قلنا: هذا هو أصل الضلال وأساسه، وبسببه أوَّل من أوَّل من الفرق الضالة، ومطيتهم: (لابد من التأويل ولا نؤول كل شيء) كما هي تأويلات الباطنية فهم لا يؤولون الحج بخلاف الصيام فهم يقولون: لابد من تأويل الصيام، ومعناه عندهم: حفظ أسرار الأئمة، وأيضاً الرافضة -وهم في الحقيقة باطنية - يقولون: هناك أشياء لابد من تأويلها، فكل ما ورد في القرآن من المواضع الدالة على فضل علي، والرد على أعدائه وإن كان العامة لا يفهمون، -ويعنون بالعامة أهل السنة- كقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67] لابد أن تؤول البقرة بـعائشة رضي الله عنها، بحجة أن هناك مواضع لابد من التأويل فيها، أما ما يتعلق بالجنة والنار والميزان، والصراط والآخرة فقد يؤولونه وقد لا يؤولونه، ومثل تأويل الباطنية الذين هم أكثر الفرق تأويلاً، وتأويلهم مخرج من الملة، ومنهم النصيرية ؛ والدروز وأمثالهم، فهم يؤولون الصلاة والصيام والزكاة والحج، وصفات الله تعالى، ويلعبون بكتاب الله كما يشاءون، ويقولون: إن التأويل له تأويل باطن، والتأويل الباطن له تأويل باطن آخر.. إلى سبعمائة تأويل باطن، ولذا يقولون: لابد من وجود إمام معصوم يُرجع إليه؛ لأنه لا يوجد من يفهم هذه الأسرار، ومن هنا يُجمِّعون الغوغاء، وجهلة الناس، ويُعبِّدونهم للإمام الذي يتبعونه، وهؤلاء المؤولون من باطنية ورافضة يرون أنه لا بد من التأويل.
ثم أهل التأويل والضلال والبدعة في صفات الله تعالى كتأويلات المعتزلة في بعض المواضع، والأشاعرة والماتريدية والجهمية، كلهم يقولون: نحن نؤول، لكن لا نؤول إلاَّ ما لابد من تأويله.
وكمثال واقعي على ذلك:
ألف أبو حامد الغزالي كتاباً مشهوراً معروفاً في الرد على الباطنية هو فضائح الباطنية، ومن الأشياء التي يكفرهم ويفضحهم بها: أنهم يؤولون ما في الكتاب والسنة ويؤولون الأحكام الظاهرة، وهذا كفر؛ لأن هذه النصوص والأحكام ظاهرة لا تحتاج إلى تأمل واستنباط، فالصلاة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤدونها عملياً في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، وتناقل ذلك التابعون وأتباعهم، حتى امتد الإسلام من المشرق إلى المغرب. فإذا جاء رجل باطني في القرن الرابع وقال: ليست الصلاة بهذا المعنى، وإنما معنى الصلوات الخمس علي والحسن والحسين وفاطمة و...؛ فقد جاء بشيء لم يعهده المسلمون، والغزالي وأمثاله من الأشعرية يكفرون الباطنية بهذا التأويل في الأحكام الظاهرة، لكنهم قالوا -كما قال الغزالي في كتاب قواعد العقائد من الإحياء- لابد من أن نؤول في الصفات، ثم قال: "ومعرفة ما يؤول مما لا يؤول لا يُعلم إلا بطريق الكشف" فجاء بمصيبة أخرى، والغزالي باعتبار أنه إنما كتب الإحياء في مرحلة التصوف، يبين متى نؤول ومتى لا نؤول، فأوضح أنه لا يكون إلا بالكشف!! وهذا يعتبر ضياعاً للدين تماماً؛ لأنه متى سأكاشف أنا -لو كان الكشف حقيقة-؟! وبأي شيء أكاشف؟! فقد يأتي من يقول: كوشفت أن النزول حق، لكن ما كوشفت باليد، ويأتي الثاني يقول: كوشفت باليد وما كوشفت بالنزول.
إذاً: لن يبقى لديننا قرار، ولا للإيمان قاعدة استقرار ولا ثبات، وهذا لا يمكن أن يكون هو الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن إذا أقررنا مثل هذه العبارات، فإننا نلزم بمثل هذه الإلزامات، ولابد أن يحاجنا وأن يغلبنا المؤولون ابتداء من الباطنية، كما حاجت الباطنية منكري الصفات، وردوا عليهم بأنكم تكفروننا بتأويلنا للأحكام، وأنتم تؤولون الصفات، والصفات بابها أعظم؛ لأنها تدخل في التوحيد، أما الأحكام فهي تدخل في الأعمال، فنحن أوّلنا ما كان من الأمور العملية فجعلتمونا كفاراً، وأنتم تؤولون ما يتعلق بأمور الاعتقاد وهي الأصل ولا تكفرون، وهذا من العجب، وليس من الإنصاف في شيء! لأنه لابد من أحد شيئين: إما أن يؤول الكل بلا قاعدة، ويؤول كل من شاء كما يشاء، وإما أن يقال: لا تأويل مطلقاً، أو أن يقال: أولوا البعض واتركوا البعض بناء على كلام الإمام المعصوم، أو بناء على الكشف، أو بناءً على العقل، أو ما لابد منه، أو الضرورة، أو غير ذلك.
وهذه كلها لا تنضبط.. بل هي مفتاح لأن يلزم الإنسان بنقيض ما هو مقرّ به، فعليه أن يسلم بتأويل الكل أو ينكره في الكل ولابد من ذلك.
وعليه فالتعليق -الذي أشرنا أنه في حاشية النسخة التي عليها تعليقات للشيخ الألباني - غير صحيح وأن التأويل إما كفر وإما بدعة أو خطأ، وأما أهل السنة فلا يؤولون، ومن أراد الزيادة فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته الإكليل، وما كتبه ابن القيم في مختصر الصواعق، فقد رد فيه على المؤولين ردوداً عظيمة جداً، وألزمهم بإلزامات عظيمة.
إذاً: الإحاطة تتضمن إحاطة عظمته سبحانه وتعالى بخلقه؛ لأنه عز وجل أكبر وأعظم من كل شيء، والمخلوقات في قبضته كالخردلة أو كالحمصة في يد أحدنا، كما ورد، وقد سبق في شرح الرسالة العرشية، وتأتي إشارة إليه هنا.